صفحة: 29
أردفني الرجل خلفه فوق الحصان ، وحملني إلى مكان من الحجر ، على ضفة النيل ، تحيط به أشجار وأزهار . ودخلنا على رجل ذي لحية ، يلبس جبة ، فقام وربت على رأسي ، وقال لي : لكن أين أبوك ؟ فقلت له إن أبي ميت . فقال لي : من ولي أمرك ؟ قلت له : أريد أن أدخل المدرسة . نظر إلي الرجل بعطف ، ثم قيدوا اسمي في سجل ، وسألوني كم عمري ، فقلت لهم : لا أدري . وفجأة دق الجرس . فررت منهم ، ودخلت إحدى الحجرات فجاء الرجلان وساقاني إلى حجرة أخرى ، وأجلساني في مقعد بين صبية آخرين . عدت إلى أمي في الظهيرة ، وسألتني أين كنت ، فحكيت لها القصة . نظرت إلي برهة نظرة غامضة ، كأنها أرادت أن تضمني إلى صدرها . فقد رأيت وجهها يصفو ، وعينيها تلمعان ، وشفتيها تفتران كأنها تريد أن تبتسم ، أو تقول شيئا . لكنها لم تقل شيئا . وكانت تلك نقطة تحول في حياتي . كان ذلك أول قرار اتخذته بمحض إرادتي . وقائع مضى عليها وقت طويل ، وهي لا قيمة لها . أقولها لأنها تحضرني ، لأن الحوادث بعضها يذكر بالبعض الآخر . المهم أنني انصرفت بكل طاقاتي لتلك الحياة الجديدة . وسرعان ما اكتشفت في عقلي مقدرة عجيبة على الحفظ والاستيعاب والفهم . أقرأ الكتاب فيرسخ في ذهني . ما ألبث أن أركز عقلي في مسألة الحساب حتى تتفتح لي مغالقها ، تذوب بين يدي كأنها قطعة ملح وضعتها في الماء . تعلمت الكتابة في أسبوعين ، وانطلقت بعد ذلك لا ألوي على شيء . لم أبال بدهشة المعلمين وإعجاب رفقائي أو حسدهم . كان المعلمون ينظرون إلي كأنني معجزة ، وبدأ التلاميذ يطلبون ودي . كنت باردا كحقل جليد ، لا يوجد في العالم شيء يهزني . طويت المرحلة الأولى في عامين ، وفي المدرسة الوسطى اكتشفت ألغازا أخرى ، منها ؛ اللغة الإنكليزية فمضى عقلي يعض ويقطع كأسنان محراث . الكلمات والجمل تتراءى لي كأنها معادلات رياضية ، والجبر والهندسة كأنها أبيات شعر . العالم الواسع أراه في دروس الجغرافيا ، كأنه رقعة شطرنج . كانت المرحلة الوسطى أقصى غاية يصل إليها المرء في التعليم تلك الأيام . وبعد ثلاثة أعوام ، قال لي ناظر المدرسة ، وكان إنكليزيا : هذه البلد لا تتسع لذهنك ، فسافر . اذهب إلى مصر أو لبنان أو إنكلترا . ليس عندنا شيء نعطيك إياه بعد الآن . قلت له على الفور : أريد أن أذهب إلى القاهرة . فسهل لي السفر والدخول مجانا في مدرسة ثانوية في القاهرة ، ومنحة دراسية من الحكومة . عجبا ، كيف وفرت لي الظروف قوما ساعدوني وأخذوا بيدي في كل مرحلة ، قوما لم أكن أحس تجاههم بأي إحساس بالجميل . كنت أتقبل مساعداتهم ، كأنها واجب يقومون به نحوي . حين أخبرني ناظر المدرسة بأن كل شيء أعد لسفري للقاهرة ، ذهبت إلى أمي وحدثتها . نظرت إلي نظرة غريبة ، افترت شفتاها لحظة ، كأنها تريد أن تبتسم ثم أطبقتهما ، ثم غابت قليلا ، وجاءت بصرة وضعتها في يدي ، وقالت لي : لو أن أباك عاش ، لما اختار لك غير ما اخترته لنفسك . افعل ما تشاء . سافر . أو ابق ، أنت وشأنك . إنها حياتك ، وأنت حر فيها . كان ذلك وداعنا . لا دموع ولا ضوضاء . وبعد سنوات طويلة ، وتجارب عدة ، تذكرت تلك اللحظة ، وبكيت . أما في حينه ، فلم أشعر بشيء على الإطلاق . بل جمعت متاعي في حقيبة صغيرة ، وركبت القطار . لم يلوح لي أحد بيده ولم تنهمر دموعي لفراق أحد . الطيب صالح بتصرف عن موسم الهجرة إلى الشمال ، 1976
|