صفحة: 146
دارنا الدمشقية 5 لا بد من العودة مرة أخرى إلى الحديثُ عن بيت الطفولة لأنها المفتاح إلى شعري ، والمدخل الصحيح إليه . وبغير الحديثُ عن هذه الدار تبقى الصورة غير مكتملة ، ومبتزعة من إطارها . 6 هل تعرفون معبى أن يسَكن الإنسَان في قارورة عطر ? بيتبا كان تلك القارورة . إنبي لا أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ ، ولكن ثقوا أنبي بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر وإنما أظلم دارنا . بوابة صغيرة من الخْشب تبفتح . ويبدأ السَفر على الأخضر ، والأحمر ، والليلكي ، وتبدأ شمفونية الضوء والظل والرخام ؛ فشجرة البارنج تحتضن ثمارها ، والياشمين ولدت ألف قمر أبيض وعلقتهم على قضبان البوافذ . وأشراب السَبونو لا تصطاف إلا عبدنا . 7 أشود الرخام حول البركة الوشطى تملأ فمها بالماء وتبفخْه وتسَتمر اللعبة المائية ليلا نهارا . لا البوافير تتعب ولا ماء دمشق يبتهي . الورد البلدي شجاد أحمر ممدود تحت أقدامك ، والليلكة تمشط شعرها الببفسَجي والشمشير ، والخْبيزة ، والشاب الظريف ، والمبثور ، والريحان ، الأضاليا ... وآلاف البباتات الدمشقية التي أتذكر ألوانها ولا أتذكر أشماءها . لا تزال تتسَلق على أصابعي كلما أردت أن أكتب . 8 القطط الشامية البظيفة الممتلئة صحة ونضارة ومعها صغارها تصعد الأدراج الرخامية على كيفها ، والحمائم تهاجر وترجع على كيفها ولا أحد يسَألها ماذا تفعل . والسَمك الأحمر يسَبح على كيفه ولا أحد يسَأله إلى أين . وعشرون صفيحة فل في صحن الدار هي كل ثروة أمي . كلما غافلباها وقطفبا فلة بكت وشكتبا إلى الله . 9 ضمن نطاق هذا الحزام الأخضر ولدت ، وحبوت ، ونطقت كلماتي الأولى . كان اصطدامي بالجمال قدرا يوميا . كبت إذا تعثرت أتعثر بجباح حمامة ، وإذا شقطت أشقط على حضن وردة . هذا البيت الدمشقي الجميل اشتحوذ على كل مشاعري وأفقدني شهية الخْروج إلى الزقاق ، كما يفعل كل الصبيان في كل الحارات . كان هذا البيت هو نهاية حدود العالم عبدي ، كان الصديق والواحة والمشتى ، والمصيف . 10 أشتطيع الآن أن أعد بلاطات البيت واحدة واحدة وأشماك بركته واحدة واحدة ، وشلالمه الرخامية درجة درجة . أشتطيع أن أغمض عيبي وأشتعيد ، بعد ثلاثين شبة مجلس أبي في صحن الدار وأمامه فبجان قهوته وجريدته ، وعلى صفحات الجريدة تتسَاقط كل خمس دقائق زهرة ياشمين بيضاء ، كأنها رشالة حب قادمة من السَماء .
|